فصل: تفسير الآية رقم (173):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (173):

الآية التاسعة:
{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.
قرأ أبو جعفر حرم على البناء للمفعول و{إِنَّما} كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه وقد حصرت هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها.
والميتة: ما فارقتها الروح من غير ذكاة. وقد خصص هذا العموم بمثل حديث: «أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد». أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر.
ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96].
فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر: حيها وميتها، وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر.
وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء.
قال ابن القاسم وأنا أتقيه ولا أراه حراما.
وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام. وفي الآية الأخرى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] فيحمل المطلق على المقيد، لأن ما خلط باللحم غير محرم. قال القرطبي بالإجماع. وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم فيأكل ذلك النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ولا ينكره.
وقوله: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}، ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام: 145] أن المحرم إنما هو اللحم فقط، وقد اجتمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره. وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به وقيل أراد بلحمه جميع أجزائه! وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل.
والإهلال: رفع الصوت، يقال أهلّ بكذا أي رفع صوته. ومنه إهلال الصبي واستهلاله وهو صياحه عند ولادته.
والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير اللّه كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنيا، والنار إذا كان الذابح مجوسيا ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله.
قال الشوكاني في فتح القدير: ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم فإنه مما أهل به لغير اللّه ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن. انتهى.
قلت: ومثله ما يقع من المعتقدين للأولياء من الذبح لهم فإنه مما أهلّ به لغير اللّه وإن لم يذكروا اسمهم عليه عند الذبح، ولا فرق بينه وبين الذبح للطواغيت. وقد أكثر أهل العلم من الكلام في هذه المسألة في تواليف مفردة لا نشتغل بذكرها خشية الإطالة.
ومن أراد تفصيل ذلك فعليه بتفسيرنا (فتح البيان في مقاصد القرآن) فقد أوردنا فيه جملة صالحة فيه غنية لطالبي الحق وباللّه التوفيق.
والمراد من المضطر: من صيره الجوع والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة.
والمراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته.
والعادي: من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة.
وقيل: غير باغ على المسلمين وعاد عليهم فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارجون على السلطان وقاطعو الرحم ونحوهم، وقيل: المراد غير باغ على مضطر آخر، ولا عاد سدا لجوعه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} يقول: من أكل شيئا من هذه وهو مضطر فلا حرج عليه ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {غَيْرَ باغٍ} قال: في الميتة، {وَلا عادٍ} قال: في الأكل.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} قال: غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم:
من خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقا للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية اللّه فاضطر إلى الميتة لم تحل له.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي سعيد بن جبير قال: العادي الذي يقطع الطريق.
وقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني في أكله، إن اللّه غفور لمن أكل من الحرام رحيم به إذا حل له الحرام في الاضطرار.

.تفسير الآية رقم (178):

الآية العاشرة:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)}.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ} معناه: فرض عليكم وأثبت ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا ** وعلى الغانيات جر الذيول

وهذا إخبار من اللّه سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك.
وقيل: إنّ {كُتِبَ} هذا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ.
و{الْقِصاصُ} أصله: قصّ الأثر: أي اتباعه. ومن القاص لأنه يتبع الآثار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقا من القتل يقص أثره فيها ومنه قوله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)} [الكهف: 64].
وقيل: إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال: قصصت بينهما: أي قطعته.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا كان غير سيده، وأما سيده فلا يقتل به إجماعا، إلا ما روي عن النخعي، فليس بمذهب أبي حنيفة ومن معه على الإطلاق، ذكره الشوكاني في شرح المنتقى.
قال القرطبي: وروى ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتبة واستدلوا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة: 45] وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} مفسر لقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وقالوا أيضا: إن قوله: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها}، يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه اللّه لبني إسرائيل في التوراة.
ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم».
ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة، ولكنه يقال إن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر وهم الكوفيون والثوري، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أنه لا يقتل مسلم بكافر» وهو مبين لما يراد في الآيتين. والبحث في هذا يطول.
واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا أسلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور.
وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة، وهو الحق. قال الشوكاني وقد بسطنا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه. انتهى.
قلت: وقد أوضحت المسألة في (مسك الختام شرح بلوغ المرام) فليعول عليه.
قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}: من هنا عبارة عن القاتل أو الجاني، والمراد بالأخ: المقتول أو الولي.
والشيء: عبارة عن الدم. والمعنى: أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئا من الدية أو الأرش فليتبع المجني عليه الوليّ من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعا للمعروف، وليؤد الجاني ما لزمه من الدية والأرش إلى المجني عليه أو إلى الوليّ أداء بإحسان.
وقيل: إن من عبارة عن الوليّ و(الأخ) يراد به القاتل. والشيء، الدية.
والمعنى: أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها ويسلم نفسه للقصاص، كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك.
وذهب من عداه إلى أنه لا يخير إلا إذا رضي الأولياء بالدية، فلا خيار للقاتل وليتبع بالمعروف.
وقيل: إن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفي بمعنى فضل. وعلى جميع التقادير فتنكير {شَيْءٌ} للتقليل فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم. فنزلت هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل اللّه تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل فجاء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليصلح بينهم فنزلت هذه الآية: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} قال ابن عباس: فنسختها {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم- وصححه- والبيهقي في سننه عن ابن عباس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} قال: هو العمد رضي أهله بالعفو {فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أمر به الطالب، {وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} من القاتل، قال: يؤدي المطلوب بإحسان، {ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} مما كان على بني إسرائيل.
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن الدية فيهم فقال اللّه لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد {فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ} بأن قتل بعد قبول الدية {فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)}.
قلت: إن اللّه شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو بعوض ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو، وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية.
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية فقال جماعة منهم مالك والشافعي: إنه كمن قتل ابتداء إن شاء الوليّ قتله وإن شاء عفا عنه.
قال قتادة وعكرمة والسّدي وغيرهم: يقتل البتة ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو.
وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة.
وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به، وجعل اللّه لهذه الأمة القتل والعفو والدية- إن شاؤوا- وأحلها لهم ولم يكن لأمة قبلهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «من أصيب بقتل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها أبدا».
واستدل بالآية أيضا على أن الكبيرة لا تخرج العبد المؤمن من إيمانه فإنه لا شك في كونه قتل العمد والعدوان من الكبائر إجماعا، ومع هذا خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه- حال ما وجب عليه من القصاص- مؤمنا، وكذا أثبت الأخوة بينه وبين وليّ الدم، وإنما أراد بذلك الأخوة الإيمانية، وكذا ندب إلى العفو عنه وذا لا يليق إلا عن العبد المؤمن. فليتذكر.